لعنة القذافي تصيب ساركوزي بعد مطاردة لعقد من الزمان

عمان1:في قلب مشهد قضائي غير مسبوق، أصدرت الغرفة 32 في المحكمة القضائية في باريس، يوم 25 سبتمبر/أيلول، حكما بحق الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، بالسجن 5 سنوات نافذة، مع غرامة مالية قدرها مئة ألف يورو، وحرمان من الحقوق المدنية والأسرية.
واتهم القضاء الفرنسي ساركوزي بتكوين "جماعة أشرار"، وعلى خلفية اتهامات بتلقي أموال من نظام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي قبل الإطاحة بحكمه في 2011.
وقد قرنت المحكمة العقوبة بما يعرف في القانون الفرنسي بالاحتجاز المؤجَّل، حيث لا يقاد المتهم مباشرة من المحكمة، لكنه ملزم بالمثول أمام النيابة العامة خلال شهر على أبعد تقدير لتحديد تاريخ الاحتجاز.
كما جاءت العقوبة مقرونة بالتنفيذ المؤقت، وهو إجراء استثنائي يسمح بتنفيذ الحكم حتى في حال استئنافه، إلا إذا قررت محكمة الاستئناف خلاف ذلك.
اتهم نيكولا ساركوزي -الذي حكم فرنسا بين 2007-2012- بتكوين جماعة أشرار، وتعني الانخراط في شبكة منظمة تهدف إلى التحضير لجرائم أو جنح، وهي جريمة بحد ذاتها لا تتطلب تحقق الغرض من تشكيل الجماعة، فالقانون الفرنسي يكتفي بوجود نية مشتركة وأفعال مادية تسهل تحقق الهدف غير المشروع لإثباتها.
وبهذا التوازن بين ما ثبت ومالم يثبت، يكون الحكم قد رسم صورة دقيقة لملف الاتهام، فالادعاء المالي لم يستطع تقديم برهان مادي على انتقال الأموال، لكنه أقنع القضاة بوجود نية جنائية منظمة.
قضية تكوين جماعة أشرار
جرت خلال فترة تولي ساركوزي وزارة الداخلية بين 2005 و2007 اتصالات وزيارات من وإلى طرابلس، تلتها زيارة القذافي إلى باريس التي أثارت عاصفة من التجاذبات السياسية داخل فرنسا، خاصة بعد أن اشترط الرئيس الليبي نصب خيمته في حديقة قصر الإليزيه، ليتم التوصل إلى حل وسط أفضى إلى إقامة الخيمة في حديقة قصر ماريني، وهو مقر الضيافة الرسمي التابع لرئاسة الجمهورية.
استمرت الزيارة 5 أيام بدعوة رسمية من الرئيس ساركوزي، ترافقت مع عقود ضخمة ووعود بصفقات، مقابل رفع الحظر على القذافي وإعادته الى الساحة الدولية.
ركزت المحكمة على جملة القرائن السياسية التي ارتبطت بهذه الفترة وناقشتها في جلسات طويلة على أساس أن ساركوزي ترك مقربين ووسطاء يتفاوضون مع مسؤولين ليبيين بهدف الحصول على تمويل سري وغير مشروع لحملته الانتخابية لعام 2007 مقابل التزامات سياسية ودبلوماسية خصوصا بعد اعتداءات لوكربي وروما وفيينا وطائرة DC-10، والعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على ليبيا عام 1986 وعقوبات الأمم المتحدة عام 1992 الشاملة لمبيعات السلاح وكل الرحلات الجوية.
ومثل ساركوزي طوال 3 أشهر امام المحكمة إلى جانب 11 متهما آخرين في محاكمة غير مسبوقة كانت ثمرة 10 أعوام من التحقيقات القضائية والصحافية، قالت بحقها رئيسة المحكمة "إنها قضية بالغة الخطورة تمس ثقة المواطنين بمن يمثلونهم".
وأمام غياب أدلة مادية مباشرة للتمويل من الخزينة الليبية تمت تبرئة ساركوزي من تهمة تلقى أموال مختلسة، تماما كما حصل في قضية استفادة ساركوزي من الملايين التي وصلت من الخزينة الليبية لعدم وجود دليل على دخول هذه الأموال في الحسابات الرسمية للحملة، حيث فتح تحقيق قضائي بعد الحرب على ليبيا في هذا الشأن عام 2013.
عقدان من الشبهات والحقائق تتجلى
وتعد قضية التمويل الليبي في فرنسا حصيلة مسار طويل من التحقيقات والجدل السياسي والإعلامي، تعود جذورها إلى تصريحات سيف الإسلام القذافي الذي أعلن خلال الحرب في ليبيا أن ساركوزي تلقى أموالا من بلاده وطالبه بردها.
وقد أثار هذا التصريح عاصفة إعلامية وسياسية، تلتها وثيقة سربت من الاستخبارات الليبية وحصلت عليها جريدة ميديا بارت الفرنسية تنص على وجود اتفاق على تمويل يصل إلى 50 مليون يورو.
وتحركت النيابة العامة الفرنسية عام 2013 وفتحت تحقيقا رسميا توسع ليشمل وزراء ووسطاء وشخصيات مالية.
وفي عام 2016، قدم رجل الأعمال الفرنسي اللبناني زياد تقي الدين تصريحا مصورا، أكد فيه أنه سلم بنفسه حقائب تحتوي على 5 ملايين يورو نقدا إلى مكتب ساركوزي، قبل أن يتراجع عن أقواله عام 2020.
وزياد تقي الدين هو تاجر سلاح ووسيط في الصفقات العسكرية بين فرنسا ودول في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وكانت له علاقات وثيقة مع دوائر سياسية فرنسية خاصة مع حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية الذي كان يقوده ساركوزي.
وقبل يومين فقط من النطق بالحكم، توفي تقي الدين في بيروت، وبذلك أنهيت الدعوى بحقه، لكنه ترك أسئلة معلقة حول مصداقية شهادته المتناقضة وحتى ظروف وفاته.
خيوط شبكة الأشرار
لم يكن ساركوزي وحده في قفص الاتهام، فقد شمل عددا من الشخصيات البارزة التي لعبت أدوارا مختلفة.
فقد وقف إلى جانب ساركوزي جان كلود غيان، الأمين العام السابق للإليزيه ووزير الداخلية لاحقا، والذي أدين بعدة جرائم منها الفساد السلبي والاتجار بالنفوذ، لا سيما فيما يتعلق بتحويل 500 ألف يورو قيل إنها ثمن بيع لوحتين استخدمت لشراء شقة عام 2008، وحكمت المحكمة عليه بـ6 سنوات سجنا مع غرامة 250 ألف يورو بعد ثبوت استفادته من تحويل مالي.
كما أدين أيضا بريس هورت وفوه، الوزير الأسبق وصديق ساركوزي المقرب، بسنتين سجنا قابلة للتنفيذ عبر السوار الإلكتروني وغرامة بـ50 ألف يورو، فيما برئ من تهمة التمويل غير المشروع.
أما ألكسندر جوهري المعروف في الإعلام بـ"رجل الظل" الذي يتحرك بين السياسة والمال والصفقات، والذي لعب دورا كبيرا في العلاقات السياسية والمالية المعقدة، فقد أدين بالفساد والاتجار بالنفوذ، وحكم عليه بـ6 سنوات سجنا و3 ملايين يورو ومنعه من إدارة أي مؤسسة لمدة 15 عاما.
كما حكم على إيريك وورث، أمين خزينة حملة ساركوزي عام 2007، بالبراءة الكاملة من كل التهم، وانتهت قضية تورط زياد تقي الدين بوفاته في بيروت في ظروف غامضة قبل يومين من الحكم.
الرئيس المندفع والمحامي البارع
لم يكن رد ساركوزي على الحكم بمجرد خروجه من قاعة المحكمة مجرد تصريح انفعالي عابر، بل محاولة مدروسة لإعادة التموضع وصياغة اللعبة من جديد، ليتحول الحكم القضائي الى مواجهة سياسية -قضائية تستهدف شخصه وتاريخه.
فقد تجاوز ساركوزي في تصريحاته تفاصيل الاتهام وركز على شرعية الإجراءات نفسها، واصفا الحكم "بالمهانة الوطنية" ومضيفا أن القضاء تجاوز حد مبدأ دولة القانون.
مراوغة ساركو السياسية والقانونية جعلته يظهر كضحية مؤامرة سياسية تستهدف رأس الدولة لا كمتهم مدان، واعتمد سياسة الاجتياح الإعلامي، فمنذ صدور الحكم وهو ضيف كل القنوات الإخبارية وعلى صفحات كل الجرائد هدفة بث خطاب ممنهج لحشد تعاطف أكبر شريحة من الفرنسيين الذين يساورهم القلق من القضاء، والذين يتهمون القضاه بانتقاء الملفات وادارتها بمعايير.
حشد الخطاب تعاطف اليمين المحافظ، وخرجت مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف بتصريحات نارية على وسائل الإعلام الفرنسية الكبرى، حيث اعتبرت أن تنفيذ حكم سجن ساركوزي قبل انتهاء الاستئناف يمثل خطرا على قرينة البراءة، ويسيء لصورة فرنسا، كما رأت أن بعض القضاة يسلكون نهجا يستهدف شخصيات سياسية، مؤكدة أن الحق في الاستئناف يجب أن يصان.
والمفارقة أن مارين لوبان نفسها متهمة في قضية كبرى أمام محكمة باريس، تتعلق باختلاس أموال أوروبية عبر وظائف وهمية لمساعدين برلمانيين لحزبها.
وأعرب الأمين العام للحزب الاشتراكي أوليفييه فور عن موقف نقدي من بعض المواقف التي وصفها بأنها تحاول تشويه القضية قائلا إن "بعض السياسيين يخلقون سحابة ضخمة من الدخان حول القضية، في حين أن النقاش الحقيقي يجب أن يكون حول ما إذا كنا نقبل بأن هناك قضاة يساء استعمالهم فعلا ويضغط عليهم".
وأضاف أن "جزءا من العالم السياسي قرر شن حربا على القضاة كرد فعل على هذا الحكم"، في تصريح يأتي كانتقاد ضمني للهجمات التي وجهت للقضاء بعد النطق بالحكم.
وصف المحامي والناشط اليميني المتشدد جيل ويليام غولدنادل -المعارض للإسلام السياسي والهجرة غير الشرعية- حكم المحكمة بحق ساركوزي بالجائر واعتبر أن التغطية الإعلامية للمحاكمة كانت منحازة.
وكتب غولدنادل "يوما ما سأكتب كيف رأيت العدالة الفرنسية تموت، فظاهرة التسيس والتراجع المهني جعلتني أتعرف على محاكم بلادي، النصوص الجيدة تنهار، فيما الملفات الضعيفة قد تنجح لأن الأمن القانوني أصبح وهما".
وفي المقابل، أفردت ميديا بارت -الجريدة التي كان لها الفضل في الكشف عن الكثير من خبايا القضايا التي لاحقت ساركوزي- صفحات طويلة حول الموضوع جاء في بعضها "إدانه ساركوزي سرعت توحيد اليمين، حيث ساد الذهول في صفوف اليمين واليمين المتطرف، وضاعفت قنوات الأخبار المتواصلة من وقع هذه الصدمة".