توم باراك.. مندوب سام أميركي لسوريا ولبنان

عمان1:علي حافظ
بحضور وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، وضابطين أميركيين يؤديان التحية العسكرية، رفع دبلوماسي أميركي مستجد يدعى توماس باراك في 29 مايو/أيار 2025، علم بلاده في مقر السفير بدمشق، لأول مرة منذ مغادرة رئيس البعثة روبرت فورد عاصمة الأمويين في فبراير/شباط عام 2012، وحلول القطيعة بين إدارة الرئيس باراك أوباما، وسلطة البعث السوري، التي ما لبثت أن زالت تماما في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024 بعدما أغرقت البلاد في العنف.
لم يكن صاحب هذه اللقطة التاريخية مجرد سفير مستجد. فهو رسميا سفير الولايات المتحدة الأميركية الجديد لدى تركيا، وإلى جانب هذه المهمة غير الهينة، أسند له الرئيس دونالد ترامب في 23 مايو/أيار (أي قبل واقعة رفع العلم بأسبوع) مهمة إضافية هي "مبعوثه الخاص إلى سوريا". وإلى هذه وتلك، أنيطت بباراك مهمة ثالثة قوامها الحلول مؤقتا محل نائبة المبعوث الخاص للشرق الأوسط (ستيف ويتكوف) مورغان أورتاغوس المتخصصة بلبنان، والتي استبعدت من منصبها قبل ذلك بأقل من شهر. مما يبرر الاستنتاج بأن المهمات الثلاث التي أنيطت بباراك، والظروف الاستثنائية المحلية للبلدين العربيين اللذين كلف بالعمل فيهما، وأصداء ما يقوله لدى نخبهما الحاكمة ووسائل إعلامهما، جعلت من هذا الدبلوماسي، أقرب إلى "مندوب سام" منه إلى سفير فوق العادة.
سايكس بيكو
ففي متابعة لتصريحات الدبلوماسي ذي الجذور اللبنانية، خلال الشهرين اللاحقين على تعيينه في منصبه الجديد تطرق باراك لملفات تتصل بخرائط سوريا ولبنان ومستقبل شعبيهما. فهجا في 27 مايو/أيار في منشور على صفحته على منصة إكس اتفاقية سايكس بيكو الشهيرة التي قسمت المشرق العربي إلى دول قائلا: إنّ "الخطأ الذي ارتُكب قبل قرن، حين فرض الغرب خرائط وانتدابات وحدودا بالقلم، وأخضع الشرق الأوسط لحكم أجنبي، لن يتكرر". وقال أيضا إن "عصر التدخل الغربي قد انتهى"، وإن المستقبل في سوريا سيكون "للحلول الإقليمية، والشراكات، ولدبلوماسية تقوم على الاحترام".
لم يكتف باراك بتصريحاته الهادفة لبث الطمأنينة لدى مستقبليها السوريين، بل تناول الملفات شديد الوطأة على مصائرهم. فربط بين قرار رئيسه ترامب برفع العقوبات المفروضة منذ عقود على سوريا وغاية واشنطن المرتجاة التي بررت قبل سنوات، إرسال وحداة عسكرية أميركية إلى أراضيها وهي "هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية". وفي الثالث من يونيو/حزيران بشّر باراك السوريين بأن بلاده ستقلص وجودها العسكري على أراضيهم (شمالي شرق البلاد) إلى "قاعدة واحدة بدلا من 8". وقال باراك، في مقابلة مع قناة "إن تي في" التركية "إن تقليص مشاركتنا في عملية (العزم الصلب) يحدث على أساس عسكري"، وأضاف: "لقد انتقلنا من 8 قواعد إلى 5 قواعد ثم إلى 3 قواعد". وأقر بأن دمشق ما زالت تواجه تحديات أمنية كبيرة تحت قيادة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع.
بالمقابل كشف باراك في الثاني من يونيو/حزيران عن موافقة بلاده على خطة طرحتها القيادة السورية الجديدة للسماح لآلاف من المقاتلين الأجانب، الذين كانوا في السابق ضمن هيئة تحرير الشام، بالانضمام إلى الجيش الوطني، شريطة أن يحدث ذلك بشفافية. جاء ذلك بعدما ذكر مسؤولون في وزارة الدفاع السوري أن خطة الدمج تنص على انضمام نحو 3500 مقاتل أجنبي، معظمهم من الإيغور الصينيين والدول الآسيوية المجاورة، إلى وحدة مشكلة حديثا، هي "الفرقة 84" في الجيش السوري، والتي ستضم سوريين أيضا.
سوريا وإسرائيل
ولم يستثنِ باراك كذلك الملف الشائك المتمثل في هندسة العلاقة بين سوريا الجديدة وإسرائيل التي تواصل اعتداءاتها على أراضي الأولى. فدعا في 29 مايو/أيار خلال لقاء بدمشق مع مجموعة صغيرة من الصحفيين إلى "اتفاق عدم اعتداء" بين الدولتين. وقال: "سوريا وإسرائيل مشكلة قابلة للحل. لكن يتعين أن تبدأ بالحوار". وأضاف: "أعتقد أننا بحاجة إلى البدء باتفاقية عدم اعتداء فقط، والحديث عن الحدود". ثم أردف في حديث مع الجزيرة بثته في 27 يونيو/حزيران قال إن "سوريا تجري محادثات بهدوء مع إسرائيل حول كل القضايا". وفي الثالث من يوليو/تموز كرر في حديث نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" كلامه عن إجراء سوريا وإسرائيل "محادثات جدية برعاية أميركية لاستعادة الهدوء على طول الحدود بينهما". مضيفا أن إدارة الرئيس دونالد ترامب ترغب في انضمام سوريا لاتفاقيات أبراهام لكن هذا الأمر "قد يستغرق وقتا".
وإثباتا لفرادة مكانة الدولة التي يمثلها في المشهد السياسي والاقتصادي السوري الراهن حرص السفير باراك على الوقوف في الثالث من يونيو/حزيران بجانب الرئيس السوري أحمد الشرع أثناء حفل توقيع مذكرة تفاهم بين حكومة دمشق وشركات أميركية وقطرية وتركية لإعادة تأهيل قطاع الطاقة. ومن شـأن المذكرة البالغ قيمتها 7 مليارات دولار التوصل إلى توليد 5 آلاف ميغاواط إضافية من الكهرباء، منها 4 آلاف ميغاواط عبر محطات غازية حديثة وألف ميغاواط من الطاقة الشمسية.
وفي الشق اللبناني من مهمته الدبلوماسية، لم يكن توماس باراك أقل حضورا وإثارة للتكهنات والتحليلات رغم أن زياراته لهذا البلد منذ تكليفه بالملف لم تزد عن اثنتين الأولى في 19 يونيو/حزيران والثانية في السابع من يوليو/تموز. وفي المرتين التقى مثلث السلطة السياسية المتمثل برئيس الجمهورية جوزيف عون ورئيس الحكومة نواف سلام ورئيس مجلس النواب نبيه بري الذي هندس مع المبعوث الأميركي السابق عاموس هوكوشتاين في 23 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي اتفاق وقف النار مع إسرائيل بتوكيل علني من حزب الله. كما التقى البطريركَ الماروني وزعيمَ حزب القوات اللبنانية سمير جعجع.
نسف الوقاحة
أول ما لفت أنظار المراقبين اللبنانيين أن الأسلوب الذي اتّبعه باراك خلال زيارته الأولى نسف أسلوب "الوقاحة" الذي اتبعته المبعوثة السابقة مورغان أورتاغوس عندما كانت تتعمد من بيروت الإشادة بإسرائيل "رغم أن المطالب الأميركية لا تزال على حالها" وفق ما ذكر مراقب محلي.
واستنادا إلى ما نقل عن باراك بعد زيارته الأولى بأن لقاءاته تتمحور حول رسالة رئيسه الذي "يريد إحلال الاستقرار في المنطقة، ويريد أن يعرف وجهة نظر لبنان في تحقيق هذا الهدف" قسم المراقبون الملفات التي سيعمل عليها باراك إلى نوعين: الأول يتعلق بالعلاقة السورية اللبنانية والآخر بعلاقة لبنان وإسرائيل.
وفي توضيح ماهية ملفات النوع الأول العالقة بين لبنان وسوريا تنقل صحيفة الشرق الأوسط عن الدبلوماسية السابقة في الأمم المتحدة بريجيت خير أنها تتلخص في "ترسيم الحدود البرية والبحرية مع سوريا لضمان حقنا بالبترول والغاز، ملف اللاجئين السوريين، ملف المفقودين اللبنانيين في سوريا، مصير المجلس اللبناني السوري الأعلى والمعاهدات التي تصب لمصلحة سوريا، كما مسألة ودائع السوريين في المصارف اللبنانية والتعويضات التي يفترض أن يطالب بها لبنان نتيجة الحرب والهيمنة السورية على لبنان".
أما ملف لبنان وإسرائيل فيبدأ مما اعتبره باراك نفسه -في معرض حديثه لنيويورك تايمز عن اتفاق نوفمبر/تشرين الثاني 2024 لوقف إطلاق النار بين الطرفين- أنه كان "فاشلا تماما"، مشيرا إلى أن إسرائيل لا تزال تنفذ ضربات في لبنان، وأن حزب الله ينتهك شروط الاتفاق". أما الحل فلخصه في مقترح مكتوب سلمه للحكومة اللبنانية خلال زيارته الأولى يتضمن أهدافا وجداولا زمنية محددة لكيفية نزع سلاح "حزب الله" وإصلاح اقتصاد البلاد على أن يتلقى الإجابة عنها خلال زيارته التالية. وشدد باراك على أن إدارة ترامب تسعى، بالتوازي مع ذلك، إلى تأمين دعم مالي من السعودية وقطر من أجل تمويل مشاريع إعادة إعمار في جنوب لبنان، قائلا: "إذا حصل الشيعة في لبنان على شيء من هذه العملية، فسيتعاونون معها".
لم يضمن
وتفيد مصادر إعلامية لبنانية متطابقة أن باراك تسلم خلال لقائه الثاني الذي جمعه بعون وسلام وبري ورقة العمل اللبنانية التي تتحدث عن انتشار الجيش في الجنوب وضبط سلاح حزب الله، ولم يُغدق الوعود، وصحيح أنه أعطى لبنان الحق بالمطالبة بوقف الاعتداءات الإسرائيلية والانسحاب كعامل مساعد للدولة لبسط سلطتها، لكنه في المقابل لم يضمن استجابة إسرائيل لذلك، وقال إنه سيتولى نقل الجواب للرئيس ترامب لمناقشته مع الجانب الإسرائيلي. وفي تصريح لاحق قال للصحفيين "ما قدمته لنا الحكومة في فترة وجيزة جدا كان شيئا مذهلا، أنا راض للغاية عن الرد".
ولا يوجد رصيد دبلوماسي سابق لباراك البالغ من العمر 78 عاما. لكنه يشبه رئيسه من ناحية اقتران تجربته السياسية بعالم الأعمال. فتوماس جوزيف باراك سياسي ورجل أعمال مولود في مدينة لوس أنجلوس بولاية كاليفورنيا، لعائلة لبنانية كاثوليكية مهاجرة، أصلها من منطقة زحلة بمحافظة البقاع.
وأسس عام 1991 شركة "كولوني كابيتال" ومقرها لوس أنجلوس، وهي واحدة من أكبر شركات الاستثمار العقاري الخاصة في العالم، وتُعرف باسم "ديجيتال بريدج". كما دخل مجال الاستثمار الرياضي والإعلامي، فاشترى نادي باريس سان جيرمان الفرنسي، ثم باعه لشركة قطر للاستثمار الرياضي في مارس/آذار 2012.
ربطت علاقة قديمة توماس بالرئيس دونالد ترامب منذ تسعينيات القرن الـ20، حين باعه حصة في سلسلة متاجر "ألكسندرز" الشهيرة، وتطورت العلاقة بينهما على مدى سنوات. وأصبح باراك مستشارا لترامب أثناء حملته الانتخابية عام 2016، ثم تولى رئاسة لجنة التنصيب الرئاسي التي أشرفت على احتفالات ومراسم تنصيب الرئيس الـ45 في تاريخ الولايات المتحدة.
اللافت في باراك خلفيته غير الدبلوماسية ورابطته القديمة مع ترامب مما يجعله -بالأهمية والتعويل على نجاح استثنائي- يوازي ما تتوقعه إدارة ترامب من البلغاري الأصل ستيف ويتكوف واللبناني الأصل جوزيف مسعد وقبلهما الجنوب أفريقي أيلون ماسك. لكن ما يميز بارك عن الثلاثة السابقين أن دوره وأداءه أقرب إلى سلطة قناصل الدول الكبرى في الدولة اللبنانية الأولى بين 1861 و1914 عندما كانت مجرد مقاطعة عثمانية تعرف بمتصرفية جبل لبنان. فقد كانت الوظيفة الأولى لممثلي بريطانيا وفرنسا وروسيا وبروسيا والنمسا التدخل لضبط إيقاع الصراعات بين الطوائف المتناحرة تحت سمع وبصر السلطان العثماني.