التصعيد الأمريكي - الإيراني: عضّ أصابع على مسرح الشرق الأوسط

د. نعيم الملكاوي
كاتب وباحث سياسي
بين ردهات التفاوض وقعقعة السلاح، تعود الساحة الشرق أوسطية لتشهد توتراً متزايداً بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل من جهة، وإيران من جهة أخرى، في مشهد يعيد إلى الأذهان لعبة عضّ الأصابع السياسية التي طالما أُتقنت في هذا الإقليم الملتهب.
فبعد سلسلة من المفاوضات غير المعلنة والمعلنة بين واشنطن وطهران حول البرنامج النووي الإيراني، بدا وكأن الأطراف تقترب من صيغة تفاهم مؤقتة أو على الأقل وقف للتدهور. لكن ما لبثت لغة النار أن طغت على لغة الكلام، لتعود المنطقة إلى حافة التصعيد، سواء عبر الضربات المتبادلة بالوكالة، أو عبر التصريحات النارية التي تهدد بنسف أي أفق للحوار.
المفارقة أن هذا التصعيد لا يبدو ـ في عمقه ـ إلا وجهاً من وجوه التفاوض ذاته. فعندما تضيق خيارات التفاهم في الغرف المغلقة، تخرج الملفات إلى الشارع الإقليمي والدولي، في استعراض قوة يهدف إلى تحسين شروط التفاوض، لا بالضرورة إشعال حرب شاملة.
الولايات المتحدة، المثقلة بملفات دولية متعددة من أوكرانيا إلى المحيط الهادئ، تدرك أن أي مغامرة عسكرية كبرى في الشرق الأوسط ستكون ذات كلفة عالية، لكنها في ذات الوقت غير مستعدة لتقديم تنازلات مجانية في الملف النووي الإيراني دون مقابل واضح. من هنا، يمكن قراءة المناورات العسكرية الأمريكية في المنطقة، والدعم اللامحدود لإسرائيل، كرسالة مزدوجة: ردع لإيران، وتطمين للحلفاء في الخليج وإسرائيل.
لكن ما يزيد المشهد تعقيداً هو أن الرد أو المبادرة بالتصعيد قد لا تأتي مباشرة من واشنطن، بل من تل أبيب. فثمة تسريبات وتقديرات تشير إلى أن الولايات المتحدة وإسرائيل قد تتناوبان أدوار الرد أو المبادرة العسكرية تجاه إيران. بمعنى أن تقوم إسرائيل بتوجيه ضربة استراتيجية لمنشآت نووية إيرانية تحت غطاء أو رعاية أمريكية، وربما بموافقة إقليمية ضمنية أو علنية من بعض دول المنطقة التي ترى في البرنامج النووي الإيراني تهديداً مباشراً لأمنها. هذا السيناريو يعكس ما يشبه توزيعاً للمهام العسكرية والسياسية، يتيح للولايات المتحدة الحفاظ على مساحة من المناورة، فيما تتولى إسرائيل التنفيذ الميداني عندما تقتضي الضرورة.
أما إيران، التي تمر بظروف اقتصادية صعبة نتيجة العقوبات، وتواجه احتجاجات داخلية دورية، فإنها تستخدم التصعيد كورقة ضغط على طاولة المفاوضات، مدفوعة بقناعة مفادها أن واشنطن في نهاية المطاف تسعى إلى اتفاق، لا إلى حرب. فإيران لا تُخفي رغبتها في رفع العقوبات وتثبيت دورها الإقليمي، لكنها تريد أن تصل إلى هذه الأهداف عبر معادلة القوة، لا منطق الضعف.
اللافت أن التصعيد لا يبقى محصوراً بين طهران وواشنطن، بل ينعكس مباشرة على أمن واستقرار الإقليم برمته. فلبنان وسوريا والعراق واليمن ليست سوى مسارح لتبادل الرسائل بالنار، في ظل شبكة معقدة من الحلفاء والوكلاء. وبالتالي، فإن أي خطأ في الحسابات قد يحوّل عضّ الأصابع إلى كسر فعلي لها، ويدفع المنطقة نحو فوضى يصعب احتواؤها.
في النهاية، فإن ما يجري اليوم لا يمكن فصله عن استراتيجية “حافة الهاوية” التي يتبعها الطرفان منذ سنوات. فلكل طرف أهدافه وحساباته، لكن الثابت الوحيد هو أن الشرق الأوسط يبقى رهينة صراع لا يعبأ كثيراً بمصالح شعوبه ولا استقرار دوله. والمقلق أن لعبة النار، مهما كانت محسوبة، قد تخرج في لحظة ما عن السيطرة، فتحرق أكثر مما تفاوض عليه اللاعبون .