رؤية في إخفاق الحضارة المعاصرة

عمان1 - كتب الباحث الدكتور شوقي ابو لطيف:
يقفُ العالم اليوم مشدوهاً أمام "ظاهرة الرعب" المنتشرة في كل مكانٍ على سطح الكرة الأرضية، ليس لأنه لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشريّة، من حيث الفتك الوبائي والخوف الجماعي، إنّما لأن الإثارة التي ترافق تلك الظاهرة هي على جانب كبيرٍ من الخطورة والأهمية، سواءً كان ذلك على صعيد التوعية من مخاطر الفايروس المنتشر بضراوة، أم على صعيد الدعاية من أجل تسليع منتجات وقائية، أو علاجية، أو غذائية، أو دوائية، أو تقنية، الخ...
يتّسم كل راهنٍ بثقل ما يلقيه على كواهل المتلقّين، من يقظة القلق والغفلة عن الآمال أمام الآلام الموجعة، والمعاناة اللّاهبة، كما يتّسم بتنوّع واختلافات التأثّر بما يجري، حتى لكأنّ كل فردٍ متلقٍّ هو بحد ذاته مقياسٌ للراهن كلّه، بصرف النظر عن ضرورة هذا المقياس الفردي، أو ذاك، للحكم على الحالة العامّة الجاثمة.
وبالنظر إلى المسألة، نجد أنّ استيعاب "الظاهرة الرعب"، لن يتمّ دفعة واحدة، وهناك مستويات مختلفة لهذا الاستيعاب، وهناك تفاعلٌ يختلف منسوبه بين ثقافةٍ وثقافة، وبين شخصٍ وشخص داخل الثقافة نفسها، وبين جغرافيةٍ وجغرافية، وبين محلٍ ومحل في الجغرافية نفسها. بيد أنه، وبالرغم من ذلك، فإن الجهاز المناعي للمجتمع لا يلبث أن يصحو ليتدخّل، بأدواته القسريّة والجاذبة معاً، من أجل حماية الجماعة من تهديدٍ وجودي، تحت عنوان "مواجهة الوباء معاً"، فيزدهر المجتمع المدني، وينشط إلى جانب الدولة، التي تتبيّن سلبيّة دورها في قصر يدها من جهة الرعاية المفترضة، بكلفتها الإدارية، أو البشريّة، أو في تأمين الحاجيات الطارئة لمواجهة الأزمات. كما تتبيّن هذه السلبيّة، في استطالةِ يدها للإمساك بمقدّرات المجموع من هذا الشعب أو ذاك، لمزيدٍ من التحكّم والاستئثار والاستبداد أمام تلاشي القدرات، والتي كانت مُعدّة للنقد والتصويب، والاحتجاج، والإصلاح.
الناس لا يموتون بفعل كورونا وحسب، إنّما يموتون بسبب أمراضٍ فتّاكة أخرى، وبأعدادٍ أكبر، كما أن الناس لم يكونوا ليتوقفوا عن العمل بسبب كورونا وحدها، إنّما لأسبابٍ أخرى سياسيّة، واقتصادية، وتكنولوجية. كما أنهم لم يُحبَطوا بسبب النظام العالمي القائم فحسب، إنما يرافقهم الإحباط منذ أن أخذوا ينشغلون بحفظ البقاء، بدءاً من طلب المأكل والمشرب، مروراً بطلب الأمن والاستقرار، وصولاً إلى طلب الحريّة، وحيث ما يزال مفهومها في حالٍ من الاتّساع والتطوير، لجهة تعقيداته وتشعّباته الكثيرة. فالحريّة لم تعد مسألةً وجوديّة بقدر ما أصبحت مسألةَ تضليلٍ وجودي، مرتبطة بقيدٍ تكنولوجي، ومعلوماتي، وبيولوجي، يلاحق تابعيه أو شائنيه، ومن غير أن يُفسح لهم أي مجالٍ للتبرير، أو التفسير، أو التأويل.
والملاحَظ أن أكثر ما تغفل عنه الفلسفات هو "الأكذوبة"، والتي أدمنت المجتمعات استساغتها في تنكّيه مآدب الحياة التي قلّما تخلو من مرارة الطعم. فالأكذوبة تقع في الماوراء الترغيبي لكل قيمة، أو تضحية، أو مأثرة إنسانية تنهتف إليها مشاعر التخليد والتأبيد.
لو أردنا أن نبحث في الخطيئة، لوجدنا أن التفاحة لم تكن شجرةً بقدر ما كانت ثمرة. ولم تكن ثمرةً بقدر ما كانت عبرة. ولم تكن عبرةً بقدر ما كانت بشراً تمّ من خلاله إفساد النوع كلّه، ابتداءً من حبّةٍ واحدة. وهكذا الفايروس الكوروني يتمّ من خلاله "موت السوبرمان"، وذلك بعد قرنٍ ونيّف من إعلان فيلسوف القوّة نيتشه Nietzsche "موت الله". يموت الإنسان بلا طقوس، وفي شكلٍ مريع، إذ أصبح شكل الموت هو الهاجس، أكثر من الموت نفسه. وترتد البوهيمية نحو ترحالٍ في الاتّجاه المعاكس، نحو الانزواء والتخفّي، طلباً للنجاة من عدوٍ غير مرئيٍ إلّا بأدوات الطب المجهريّة مرفقةً بتشخيص الأعراض المحسوسة والظاهرة. على أن هذا الوباء المتّسم بشراسة افتراس الأعضاء الحيويّة بسرعة هائلةٍ للكائن الإنسان، في حال تمكُّنِهِ من الولوج إليها، لم يُلحَظ له فعاليةٌ مشابهة في الأنواع الأخرى من الحيوان التي يشترك معها الإنسان في وحدة الجنس.
إن هذا النتوء الفايروسي المضاد للحياة يأخذ بُعداً مختلفاً، كونه ينقل التهديد الوجودي من الفرد إلى الجماعة، ويُلقي بتهديده على الكادرات الطبيّة البشريّة التي يُفترض أن تتولّى إدارة مواجهته لإنقاذ المُصابين به، مما يحتّم رؤية مستقبليّة لحلول الروبوتات محل الإنسان في إجراء العلاجات والعمليّات، وتولّي سُبُل الوقاية.
ماذا سينتج عن ذلك، وهل سيبقى الطب طبّاً، أم سيتحوّل إلى وظائف علاجيّة ممكننة؟ وكذلك في المعاملات الماليّة، هل سيبقى النقد نقداً، أم أنّه سيتحوّل إلى ذبذبات ممغنطة؟
إذاً، سيكون التفاعل الإنساني مختلفاً وهشّاً، إذ أن الثقافات نفسها ستتعرّض إلى التهميش من قِبل أهلها، بسبب إخفاقها في المواجهة. كما أن الأديان، التي لم يتبيّن لأتباعها تدخّلٌ غيبي إعجازي من أجل الحفاظ على ممارسة الطقوس، سوف تكون محل مساءلة وارتياب، على الرغم من الحضور الدائم للكارما في أذهان المؤمنين لتبرير ما يحلّ بالبشر نتيجة أعمالهم السيّئة.
كانت فطرة الخديعة المقترنة بالدهاء والقسوة، واعتماد خِلال الصبر والإمساك، سبيلاً إلى السيادة على عبيدٍ في الجسد والروح. وكان احتراف السيف سبيلاً إلى ملكية الأرض وفلّاحيها، إدارةً وعملاً. وكان ولوج باب التجارة، وحيازة المال سبيلاً إلى امتلاك الثروة، في العقد وفي النقد، مما أجلى الفلّاح عن الأرض، وحوّله إلى عاملٍ يستلبه عالم آخر صناعي، وقد تحرّر لتوّه من قيود الإقطاع، لتعود الجماعيّة في صورة مشتركٍ بروليتاري يثور ابتغاءَ مساواةٍ مشاعيّة، إما بطابع يوتوبي أو مادي، فتُسقطها عولمةٌ تسعى لمساواتيةٍ من نوعٍ آخر، يستوي فيها الذين يعملون والذين لا يعملون، على أيدي الذين يعلمون. عولمةٌ تطيح بالإيديولوجيا، والتنوّع الحضاري، والقيَم المجتمعيّة، وتضع الملكيّة الفكرية على محك النتوءات الذكية للحضارات القديمة التي تأخذ زمام المبادرة في تظهير "مجتمعات النمل الإنسانية"، المركنة إلى عقيديات دينية وأخلاقية، موغلة في براغماتية التيسير والإفادة من العادات المتوارثة دربةً ونهجاً نحو آفاقٍ جديدة، تهتزّ من جرّائها نظريّات الاقتصاد السياسي، والتي كانت تنهج في سبيل تكريس بلوتقراطية مركزية في الغرب "الفاوستي"، بسيطرة الليفياثان الهوليوودي، على أن تبقى الديمقراطية تفريجاً ممسرحاً عن قهرٍ مكبوت، واستراحةٍ مصطنعة للهاثٍ مميت، في سباق عبثي إلى رفاهٍ زائف.
أما إذا ما أدّت كورونا إلى ولادة مرحلة ما بعد العولمة، فإن ذلك يطرح فرضيّات عدّة: أولها انبعاث مفهومات جديدة للمستقبل الذي تواجهه جحافل من الفقراء، والمرضى، والمحبطين، والعبثيين، وممارسي العنف والرذيلة بأشكالها كافّة، كما تواجهه سلوكات من مُتعِ الثراء، والترحّل، والتواصل، والتحكّم، والذكاء، والجمال، والفردوس الأرضي المتاح للمغامرة والمقامرة. وثاني هذه الفرضيات هي مدى إمكان العودة إلى الأرض، في ظلّ هندسةٍ زراعيّة متناميةٍ بأبعادٍ غير ترابيّة وغير بشريّة، وفي مواجهة أزمات مائيّة تعاني منها شعوبٌ كثيرة في أكثر من قارة، وانعكاسُ ذلك في الأمن الغذائي للشعوب الفقيرة. ثالثُ هذه الفرضيّات تأثير ما تبقّى من مصادر للطاقة في جوف الكوكب الأرضي، على المشاريع الكبرى للامبراطوريات شرقاً وغرباً، وما إذا كان ذلك سيكون كافياً لتحقيق الطموحات الآيلة إلى مستعمراتٍ كوكبيّة، خارج نطاق الأرض. رابعُ هذه النظريات، وآخرها، سيكون خارج كل القيَم والأخلاقيات والديانات، هو انكشافُ الإنسان عن مواطنةٍ مشروطة بعقدٍ دولي جديد، ينتقل به من الحريّة الطبيعيّة المطلقة، التي ألحقت بها الحداثة حرية مسنونة بالقوانين والنُظُم والوظائف، لنواجَه اليوم بحريّة الانتقاء البيولوجي إزاء حرمة الطبيعة، وتفاوت الإمكانيات الاقتصاديّة، واستنفاد الموارد الحيويّة.
إلى هذا كلّه، فإن رؤية متفائلة إلى ما يبدو من فرضيّات، تقودنا إلى توليفةٍ أميركو- آسيويّة، على نحو ما، تولد عن التوسّع اليوناني من هيلنستيةٍ ثقافيةٍ إشراقية، قد تشكّل جسراً إلى عالمٍ أقلّ عنفاً، وأعدل رفاهاً، وأكثر وعياً بالوجه المعنوي للحريّة، وأقرب ركوناً إلى معتقداتٍ، وأخلاقٍ، وأعرافٍ، على أن يُعمل على الحدّ من الفقر، والحدّ من الجشع في آن.
أمّا إذا كان هناك من رؤيةٍ أخرى، فإن ما يبدو من فرضيّات سيكون في جانب ازدياد العدو الهستيري نحو العدميّة، في فناء الروح الإنسانيّة، التي سوف تأخذ شكل فراشةٍ متيّمة بالنور، لا تلبث أن تحترق به من أجل اكتمال تحقّقها في مغامرة الكشف عن ثراءٍ متعالٍ، بعد استنفاد ثراء وضيع.
إنها حركة التاريخ عينها، التي أصبحت مملّة للعقل، في عودها الأبدي، بيد أنّه، وبعد مسافةٍ زمنيّة تنوف على الألف عام بين سبارتاكوس وتشي غيفارا، ومثلها بين قديم أثينا الامبراطوري ومصر الفرعونيّة، وجديد واشنطن العولمي وبكين الكونفوشيوسيّة، ألا يجدر التساؤل: هل ستبقى قيود الفقر والعبوديّة مكبّلة مسيرة المجتمعات إلى تآنسٍ حقيقي، مثيرة الشكوك حول ديمقراطيّة الأنظمة، ومصداقية التطوّر، وجدوى الرؤية إلى مستقبلٍ جديدٍ للجنس البشري؟ أم أن وأد الحلم اليوتوبي سوف يستمر إلى ما لا نهاية، أيّاً كانت الأنظمة، ومهما بلغ التطوّر، وأيّاً كانت وجهة الرؤية؟ ذلك أن الرهان على الشعوب خاسر، إلّا في مدى التقاطع مع إرادة الأقوياء، وأن الرهان على عدالة الأقوياء خاسر إلّا في المدى النفعي، الذي يوالف بين ارتقاء القوّة، وبقاء الانصياع لها. المشكلة أن تغيّراً لن يطرأ على الشرعة، وإن تغيّرت الألبسة التي تتلبّسها المجتمعات في سياق تطوّرها، إذ إن الغلبة تبقى لغريزة الحضارة، لا ليقظة الوعي المزعوم في وجوه التطوّر الحضاري.